2 ـ إدريس الصغير/ الرجل و السماء
صفحة 1 من اصل 1
2 ـ إدريس الصغير/ الرجل و السماء
2 ـ إدريس الصغير
الرّجُل والسّمَاء
وقبل الطلقة سمحوا له أن يرى سماء بلاده لآخر مرة. كانت زرقاء تتخللها سحب بيضاء تناثرت هنا وهناك. ولفح وجهه نسيم محمل برطوبة، فأيقن أنه قريب من البحر، بل أنه سمع هدير الأمواج وصوت انكسارها على صخور الشاطئ المكسور بالطحالب. كما أنه اشتم رائحة البحر، هذه الرائحة التي لا يمكن أن يخطئ تبينها أنف كأنفه. وخيل إليه أنه يكتشف السماء لأول مرة، ويكتشف السحب. لم يكن يعلم –حتى اللحظة- أن السماء رائعة فاتنة إلى هذا الحد. ولم يكن يعلم كذلك أن السحب المبعثرة المتناثرة البيضاء يمكن أن تعمل على تشكيل جمال معين في مكان معين.
عيناه والسماء والسحب.
لأول مرة تمنى لو أن الله وهبه عينين واسعتين كعيني حبيبته نعيمة. ولأول مرة عرف لماذا يتغنى الشعراء بالحور. لعل العيون الحوراء تتسع للتملي من مساحة أكبر فتشفي غليلها.
حين نزعوا العصابة عن عينيه كان هناك ضباب يغلف مقلتيه ويحجب عنه الرؤية. لكنه سرعان ما انقشع. ورغبت قدماه عن حمله فكاد يهوي لكنه تمالك نفسه. لم يكن يدري مصدر تلك الطاقة التي تمده بالقوة والصمود والتحدي. كان قد انتهى منذ شهور عديدة طويلة.
أغاني الرحلة المدرسية كانت لا زالت تملأ أذنيه كنشيد خالد. الصعود والهبوط إلى عين "للأحيا" متعب مضنى. كانت الأجساد تتهالك على طول انحدار الوادي، فرحى، عطشى، نشوى، مجهدى. ولم يفكر لحظتها أن ينظر إلى السماء. كان هنالك بيض ودجاج وزيتون وفاكهة، وكانت هنالك قنينات "والماس" المجانية. ولم ينظر إلى السماء. لعل السماء لم تكن هناك. كانت آلات التصوير تلتقط البسمات المرسومة على الشفاه تحت الطلب.
قبل الطلقة سمحوا له أن يرى سماء بلاده لآخر مرة. كانت زرقاء. وكان خائفاً كما لم يخف من قبل. وكانوا أمامه يصطفون ببنادقهم المحشوة بالرصاص. لم يرهم لكنه علم بوجودهم. كان بعضهم يسعل بصوت مسموع. وكانت تصدر عن أقدامهم وسلاحهم قرقعات عقب أوامر قائدهم يرسلها مدوية في الهواء معطوفة كنداء بائع الماء في الأحياء القديمة. فكر بأن يتفرس في وجوههم. يرى قاتليه. شكلهم. لون أعينهم. نوع سجائرهم. لكنه عدل عن ذلك كله. الأهم هو السماء. هنالك أغنية عنوانها: "الأهم هو الوردة".
عيناه والسماء والسحب.
وكانت اللحظة قصيرة لا تشفي الغليل. وكانت طويلة تستعرض حياة الإنسان من عهد آدم. حين نزعوا العصابة عن عينيه، نظر إلى السماء. حاول أن يركز تفكيره بها، أن ينقطع عن كل ما هو دونها، لكنه لم يفلح. وجد نفسه يستعرض قصة حياته بأكملها.
غريبة هي الذاكرة. يمكنها أن تستحضر آلاف الأحداث يراها الإنسان دفعة واحدة بكل تفاصيلها دون أن يحدث له أي ارتباك في الفهم والإدراك. وأدرك أنهم يتحفزون الآن. أصبحت أوامر القائد أكثر دوياً وتمطيطاً. كانوا الآن يصوبون فوهات البنادق إلى صدره جهة القلب. لم ينظر إليهم لكنه أدرك كل ما يحدث أمامه. واللحظة قصيرة طويلة.. أن يغادر هذا العالم، أن تلبس نعيمة ثوب الحداد، أن يمسي جثة هامدة لا تقوى على الحراك، أن يبكي الأصدقاء، أن يزور الأهل القبر كل جمعة يرشونه بماء ويوزعون الخبز والتين المجفف على المساكين. أن يرثوك: يا ولدي العزيز. يا حبيبي. يا صديقي. كل هذا مقرف مخيف.
وكانت السبابات على الأزناد. وكانت السماء زرقاء.
(المغرب)
عيناه والسماء والسحب.
لأول مرة تمنى لو أن الله وهبه عينين واسعتين كعيني حبيبته نعيمة. ولأول مرة عرف لماذا يتغنى الشعراء بالحور. لعل العيون الحوراء تتسع للتملي من مساحة أكبر فتشفي غليلها.
حين نزعوا العصابة عن عينيه كان هناك ضباب يغلف مقلتيه ويحجب عنه الرؤية. لكنه سرعان ما انقشع. ورغبت قدماه عن حمله فكاد يهوي لكنه تمالك نفسه. لم يكن يدري مصدر تلك الطاقة التي تمده بالقوة والصمود والتحدي. كان قد انتهى منذ شهور عديدة طويلة.
أغاني الرحلة المدرسية كانت لا زالت تملأ أذنيه كنشيد خالد. الصعود والهبوط إلى عين "للأحيا" متعب مضنى. كانت الأجساد تتهالك على طول انحدار الوادي، فرحى، عطشى، نشوى، مجهدى. ولم يفكر لحظتها أن ينظر إلى السماء. كان هنالك بيض ودجاج وزيتون وفاكهة، وكانت هنالك قنينات "والماس" المجانية. ولم ينظر إلى السماء. لعل السماء لم تكن هناك. كانت آلات التصوير تلتقط البسمات المرسومة على الشفاه تحت الطلب.
قبل الطلقة سمحوا له أن يرى سماء بلاده لآخر مرة. كانت زرقاء. وكان خائفاً كما لم يخف من قبل. وكانوا أمامه يصطفون ببنادقهم المحشوة بالرصاص. لم يرهم لكنه علم بوجودهم. كان بعضهم يسعل بصوت مسموع. وكانت تصدر عن أقدامهم وسلاحهم قرقعات عقب أوامر قائدهم يرسلها مدوية في الهواء معطوفة كنداء بائع الماء في الأحياء القديمة. فكر بأن يتفرس في وجوههم. يرى قاتليه. شكلهم. لون أعينهم. نوع سجائرهم. لكنه عدل عن ذلك كله. الأهم هو السماء. هنالك أغنية عنوانها: "الأهم هو الوردة".
عيناه والسماء والسحب.
وكانت اللحظة قصيرة لا تشفي الغليل. وكانت طويلة تستعرض حياة الإنسان من عهد آدم. حين نزعوا العصابة عن عينيه، نظر إلى السماء. حاول أن يركز تفكيره بها، أن ينقطع عن كل ما هو دونها، لكنه لم يفلح. وجد نفسه يستعرض قصة حياته بأكملها.
غريبة هي الذاكرة. يمكنها أن تستحضر آلاف الأحداث يراها الإنسان دفعة واحدة بكل تفاصيلها دون أن يحدث له أي ارتباك في الفهم والإدراك. وأدرك أنهم يتحفزون الآن. أصبحت أوامر القائد أكثر دوياً وتمطيطاً. كانوا الآن يصوبون فوهات البنادق إلى صدره جهة القلب. لم ينظر إليهم لكنه أدرك كل ما يحدث أمامه. واللحظة قصيرة طويلة.. أن يغادر هذا العالم، أن تلبس نعيمة ثوب الحداد، أن يمسي جثة هامدة لا تقوى على الحراك، أن يبكي الأصدقاء، أن يزور الأهل القبر كل جمعة يرشونه بماء ويوزعون الخبز والتين المجفف على المساكين. أن يرثوك: يا ولدي العزيز. يا حبيبي. يا صديقي. كل هذا مقرف مخيف.
وكانت السبابات على الأزناد. وكانت السماء زرقاء.
(المغرب)
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى